تمتدّ العلاقة الأميركيّة السّعوديّة لمدّة تتجاوز التّسعين عامًا، وذلك ينعكس على النّخب الثّقافيّة، وهي بدورها ليست إلّا إنعكاس للمجموعات السّياسيّة التّي تتبعها.
يعرف الجميع اليوم أنّ أجندات خاصّة تحرّك الصّحف ومراكز البحوث وغيرها من وسائل الإعلام والمؤسّسات الثّقافيّة والأكاديميّة، وأنّ جميعها ليست مستقّلة غالبًا. ففي ظل سيطرة النّظام الرّأسمالي، نستطيع القول أنّ معظم المؤسّسات في الولايات المتّحدة الأميركيّة وبريطانيا أيضًا تخضع لمعيار المنفعة المتبادلة وميران المصالح، وذلك ينطبق على الجهات التّي يفترض أن تدعم قضايا عالميّة لحقوق الإنسان، حيث تتقدّم الكثير من الإعتبارات على فكرة الإصطفاف مع الفئات المهمّشة والمضّطهدة.
هناك مشكلة عميقة في المنّظمات المعنيّة بحقوق الإنسان في دول كبريطانيا وأميركا، وجذور هذه المشكلة ثقافيّة في الأساس، ويتأثّر ذلك بتغطية هذه المنظّمات لمسائل حقوق الإنسان حيث تخضع لمنطلقات ثقافيّة وفكريّة خاصّة بهم، تدفعهم للتّركيز على قضايا وتجاهل أخرى.
التّعاطي مع قضايا حقوق الإنسان في قطر مثال واضح على طريقة إنتقاء القضايا الحقوقيّة والتّسليط عليها والتّعامل معها بناءًا لملفّات وأجندات. فقطر يشوب سجّلها الحقوقي العديد من النّقاط السّوداء، لكّن الإعلام وخضوعًا لمعايير الرّاهنيّة إختار تسليط الضّوء على إضطهاد مجتمع الميم وتجريم المثليّة الجنسيّة لإدانتها باعتبار المثليّة الجنسيّة أكثر المواضيع رواجًا لدى الرّأي العام الغربي.
الدّكتور محمدّ فهد القحطاني، وهو مؤسّس جمعيّة حسم (جمعيّة الحقوق المدنية والسياسية في السعودية)، وهو أهمّ سجين سياسي في سجون السّعوديّة، وهو من النّخب الثّقافيّة والحاصلة على قبول وطني في البلاد، والحركة السّياسيّة التّي أسّسها شكّلت أوّل مبادرة لتأسيس حركة سياسيّة بديلة من هذا النّوع داخل البلاد. رغم كلّ هذه المعطيات تتجاهل الجهات الغربيّة ووسائل الإعلام قضيّته، والقحطاني معروف جدًّا في الولايات المتّحدة، فهو والد لأربع مواطنين يحملون جنسيّتها وخرّيج إحدى جامعاتها، والأجندة السّياسيّة لعدم التّرويج لقامات هامّة كهذا الرّجل واضحة بالنّسبة للمّطلع على الأحداث، فالغرب يتطلّع إلى مناوشة النّظام السّعودي الحليف له دون إحداث أضرار إستراتيجيّة له، فإذا قارنّا الزّخم الإعلامي له مقارنة برائف بدوي مثلًا، صاحب القضيّة المحقّة بكلّ تأكيد، نرى أنّ محاولة الإبتعاد عن أصحاب التّأثير الأكاديمي والسّياسي العميق مدروسة، وغياب الإهتمام بالقضيّة إنعكس على الحضور الإعلامي، التّغطية، المقالات والحضور في مراكز البحوث.
معهد واشنطن للشّرق الأوسط مثلًا مؤسسّة مدعومة من إسرائيل بشكلً مباشر، وكان المعهد يتنقد السّعوديّة بحذر، لكنّه عندما باتت تلوح إشارات لفتح العلاقات الإسرائيليّة السّعوديّة كفّ عن إنتقاد المملكة. معظم مراكز الأبحاث تتحرّك بدافع المال أوّلًا وإنطلاقًا من توجّهات الجهة المموّلة، وذلك يؤدّي إلى تزوير الحقائق ومحاولة التغطية على الإنتهاكات والجرائم في كثير من الأحيان.
معهد الشّرق الأوسط أحد أقدم المعاهد المهتمّة بقضايا المنطقة، حصل على تمويل بما يزيد 20 مليون دولارًا من السّعوديّة والإمارات، وكلّ دراساته اليوم مشكوك فيها وبتحليلاته الأكاديميّة أيضًا.
بناءًا على تجربتي الشّخصيّة، تخرّجت من جامعة كاثوليكيّة في مرحلة الماجستير ورئيسها رجل دين، لمع نجمي من بين الطّلبة العرب والأجانب، وذلك يعود لقلّة عددهم بالأصل، بعد تخرجي ببضع سنوات، تواصلت مع مجلّة الجامعة الخاصّة بالتّجارة والأعمال، وأعلنوا طلبهم لوضع صورة خريج للجامعة على صفحة الغلاف، فقاموا بجلسة تصوير مطوّلة لي في مكتبي في واشنطن، وفي اللّحظة الأخيرة تمّ إلغاء المقابلة بأمر من رئيس الجامعة الذذي كان قسيّسًا. الّافت أنّ ذلك يعود لتّخوف الجامعة الصّدى الذّي سيحدثه تواجد معارض للنّظام السّعودي على الصّفحات الخارجيّة، وإحتماليّة إيقاف إبتعاث الحكومة السّعوديّة بطلّابها إلى الجامعة.
على صعيد الإعلام تبرز قضيّة التّمويل وتدفّق الأموال على هذه الوسائل، معلومات مؤكّدة لدينا عن تورّط صحافيين وذهابهم إلى الرّياض مخضرمين في صحف مهمّة كواشنطن بوست ونيويورك تايمز في التّرويج لولي العهد محمد بن سلمان ودعمه، مقابل مبالغ ماليّة طائلة. بعض المراسلين في السّي أن أن أيضًا ضليعون بالقيام بتقارير أشبه بماكينة دعائيّة وترويجيّة لنظام المملكة.
الأيديولوجيا والمال يحكم تعاطي وجوه كثيرة من الحيّز الثّقافي الغربي مع النّظام السّعودي. أحد العاملين المسؤولين في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض أثناء تولّي جورج بوش الإبن الرّئاسة، صرّح مرّة أنّ بعض السّفراء الأميركيّين والعاملين في القنصّلية الأميركيّة في السّعوديّة يعودون إلى أميركا كسعوديّين، معلّلًا ذلك بالوعود التّي يتلقّونها من النّظام السّعودي الحصول على وظائف رفيعة المستوى في السّعوديّة بعد إنتهاء عملهم في السّفارة. الغريب أنّ هذا الشّخص صار من أهمّ المؤيدين للنّظام السّعودي، ذلك مثال حيّ على الدّور الذّي يلعبه العامل المادّي في تبنّي بعض المواقف من قبل العاملين في السّياسة والإعلام والشّأن العام.
القليل من المراكز البحثيّة تملك مصداقيّة حقيقيّة وحياد بحثي، منذ فترة وجيزة مثلًا عقدت جلسة بحثيّة عن السّعوديّة في مركز كارينغي الذّي من المفترض أن يكون على مستوى عالي من العراقة، وفي تواصل مع مدير المركز تساءلت عن سبب عدم دعوة شخص سعودي إلى جلسة تناقش الشّأن السّعودي، وعدم وجود أشخاص يتحدّثون باللغّة العربيّة، وعن قدر الكراهيّة وغياب الموضوعيّة في ذلك. عدم الحديث عن مجموعة إثنية أو عرقيّة أو وطنيّة أو حركة معارضة وطنيّة أو تحرّر داخلي بغياب أصحاب الشّأن من بديهيّات وأساسيّات الموضوعيّة في مقاربة الموضوع وطرحه، تلك ليست إلّا محاولة لتلميع صورة النّظام نفسه.
ناصر السّعيد مثًلا أحد أشهر معارضي النّظام السّعودي الذّي قتل على يد تركي بن فيصل آل سعود وهو موجود في مجالس الإدارة للكثير من الجامعات ومراكز الأبحاث، رغم معرفة هذه الجامعات بأنّ يده ملطّخة بالدّماء. الكثير من الجامعات ومراكز الأبحاث إذًا مقابل الحصول على التّمويل والدّعم الماديّ تساوم على مبادئها وتهادن الأنظمة.
كثير من الرّؤساء رغم سمعتهم الحسنة مطبّعون مع النّظام السّعودي. الرّئيس الكندي مثلًا، جاستن ترودو المعروف بليبيراليته، يرأس نظامًا لطالما دعم النّظام السّعودي وسلّحه، وشارك في ترحيل الكثير من طالبي اللّجوء السّياسي إليها.
ختامًا، يتوجّب علينا عدم الإتّخاذ بأي جمعيّة أو مركز بحث أو جامعة أو شخص وجعله أيقونة، والإنتباه لشبكات المصالح والإيديولوجيّات التّي تقف وراء كلّ حملة دعم، والإبتعاد عن المناشدة التّي فيها نوع من التّذلّل. مقابل ذلك، تظهر حملات الضّغط، والتّحقيقات التّي تكشف للرأي العام المتورّطين وتفضح الجهات الضّالعة في دعم المسؤولين عن الإنتهاكات كسبل أكثر نجاعةً وديمومة في التّأثير على الرّأي العام.
—
*كلمة علي الأحمد في المؤتمر السنوي الثالث لضحايا الانتهاكات في المملكة العربية السعودية الذي عقد بتاريخ 9و 10 ديسمبر 2022.