يحيي العالم اليوم الدولي لمساندة ضحايا التعذيب في 26 يونيو من كل عام، وهو اليوم الذي يصادف دخول اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو غير الإنسانية أو المهينة حيز التنفيذ.
وعلى الرغم من مصادقة المملكة العربية السعودية على الاتفاقية في العام 1997، إلا أن جريمة التعذيب لا تزال تمارس في سجونها ومراكز الاحتجاز بشكل منهجي، بطريقة لا يمكن فيها للضحايا من الانتصاف من الجلادين، كما ترفض التحقيق في مزاعم التعذيب التي قدمها الكثير من المساجين.
وعلى النقيض من الاتفاقية التي لا تجيز الأخذ بالإقرارات المنتزعة تحت وطأة التعذيب، لكونها صادرة عن إرادة غير حرة، تعتبر المحاكم السعودية الأقوال التي قال أصحابها أنها صدرت منهم في جلسات تعذيب، “شرعية” لا يمكن الطعن فيها، كما تستند إليها في إصدار أحكامها الجائرة التي قد تصل لعقوبة الإعدام.
⁃ بيئة التعذيب في السعودية
تعتمد السعودية إجراءات تخلق بيئة مثالية للتعذيب في سجونها بخلاف القوانين المحلية والدولية التي تجعل ممارسة هذه الجريمة صعبة، في حال تطبيق القوانين بشكل كامل.
١. السجن الإنفرادي:
بحسب القانون الدولي لا ينبغي عزل السجين في الحبس الإنفرادي إلا في ظروف خاصة ولمدة قصيرة مع عدم المساس بحقوقه الأساسية كحقه في التواصل مع محامي. بيد أن السعودية تستخدم الحبس الإنفرادي كإجراء روتيني أساسي ولمدة مفتوحة لا نهاية قانونية لها، مع إسقاط جميع حقوق السجين الأساسية، ما يسهل على المحققين ممارسة التعذيب بحق المعتقلين. على سبيل المثال، لا يزال المعتقل الشيخ سمير الهلال معزولا عن العالم الخارجي في زنزانة إنفرادية منذ ديسمبر 2015، وحتى كتابة هذا التقرير لا تعرف عائلته شيئاً عن التهم الموجهة له.
بحسب عشرات الوثائق الرسمية الصادرة من محاكم سعودية، قامت المنظمة بمراجعتها، قال عشرات المعتقلين أنهم تعرضوا للتعذيب في فترة الحبس الانفرادي بغية إجبارهم على التوقيع على إقرارات كتبها المحققين أو قاموا بتحريفها.
٢. الحرمان من الاستعانة بمحام:
تنص المادة الرابعة من نظام الإجراءات الجزائية في السعودية على أنه: “يحق لكل متهم أن يستعين بوكيل أو محام للدفاع عنه في مرحلتي التحقيق والمحكمة”.
على الرغم من أن حق الاستعانة بمحام مُدون في الانظمة السعودية إلا أن المنظمة لم تقف حتى الآن على قضية واحدة مُكن فيها المتهم من الحصول على هذا الحق في فترة التحقيق.
تجرد السعودية المتهم من هذا الحق الأصيل، بهدف خلق بيئة مثالية يتمكن فيها المحقق من تعذيب المتهم.
قال عشرات من ضحايا التعذيب في المحكمة الجزائية المتخصصة أن التحقيق معهم كان قائما على التعذيب. بالإضافة إلى ذلك، يعمد المحققين لإدخال المتهم في بعض الحالات إلى غرفة خاصة، وبشكل مفاجىء ينهال عليه عدة أشخاص ملثمين بالضرب المبرح، كطريقة لإجباره على اعترافات محددة.
٣. عدم الفصل بين جهة الاحتجاز وجهة التحقيق:
يساعد الفصل بين الجهة المسؤولة عن الاحتجاز والجهة المسؤولة عن التحقيق في تقليل احتمالية وقوع جرائم التعذيب. تنص المادة الثالثة عشر من نظام الإجراءات الجزائية على أن: “تتولى هيئة التحقيق والادعاء العام التحقيق والادعاء العام طبقاً لنظامها ولائحته”. بيد أن
بحسب متابعة المنظمة المستمرة لقضايا أصحاب الرأي والمتظاهرين، فإن أغلبهم خضعوا للاستجواب في مباني سجون المباحث من قبل عناصر المباحث العامة، الذين يستعملون التعذيب بشكل واسع.
وعلى الرغم من أن هذا الإجراء يجعل من الأقوال التي ينتزعها محققو المباحث العامة غير قانونية، ترفض المحكمة الجزائية المتخصصة قبول الطعون التي يقدمها محامو المتهمين، مما شأنه التوضيح بأن المحكمة غير مستقلة وتخضع في عملها للقرار السياسي الذي يستخدم القضاء كأداة لقمع المعارضين وأصحاب الرأي.
قال العديد من الضحايا أن جلسات التحقيق معهم كانت تجري لساعات طويلة متواصلة بعد منتصف الليل.
٤. إجبار الضحايا على التصديق على أقوالهم قبل المحاكمة:
تعتمد المحاكم السعودية في إدانة الضحايا بشكل رئيسي على إقرارات المتهمين قبل بدء المحاكمة، وهي غالباً في فترة يكون فيها المعتقل مجردا من كافة حقوقه بما فيها حقه في الاستعانة بمحام. تنص المادة ١٠٨ من نظام المرافعات الشرعية على أن الإقرار يجب أن يكون أمام القضاء أثناء السير في الدعوى. “إقرار الخصم –عند الاستجواب أو دون استجوابه– حجة قاصرة عليه، ويجب أن يكون الإقرار حاصلاً أمام القضاء أثناء السير في الدعوى المتعلقة بالواقعة المقر بها”.
لكن السعودية ابتكرت طريقة انتزاع الأقوال عبر التعذيب قبل المحاكمة من أجل جعل وجود المحامي مع المتهم في المحكمة بدون فائدة حقيقية.
قال مصطفى آل درويش، الذي اعدمته السعودية في يونيو 2021 بتهم غير جسيمة (بعضها حينما كان قاصرا) أنه أجبر على المصادقة على أقواله، لكن القاضي لم يكترث لقوله وأصدر حكم الإعدام بحقه.
⁃ إفلات مرتكبي التعذيب من العقاب
قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش: يجب ألا يُسمح لمرتكبي التعذيب أبدًا بالإفلات من جرائمهم، ويجب تفكيك الأنظمة التي تمكّن التعذيب أو تغييرها. لكن تغيب في السعودية بشكل متعمد، إمكانية محاسبة المحققين الضالعين في جريمة التعذيب، وذلك تكريسا للمضي في هذه الجريمة وجعلها أداة في سجونها. علاوة على ذلك قد يتعرض ضحية التعذيب للاعتقال إذا ما قام بالمطالبة بمحاسبة المجرمين. في 1 يوليو 2018 قامت السعودية باعتقال الناشط خالد العمير، بعد تقديمه شكوى في الديوان الملكي ضد المسؤولين عن تعذيبه أثناء قضائه حكما سابقا بسجنه لمدة ثمان سنوات بتهمة “الخروج على ولي الأمر”، على خلفية عزمه الخروج في مظاهرة نصرة لفلسطين.
يمنع انعدام الشفافية في السعودية، إلى جانب تغييب المجتمع المدني واعتقال المدافعين عن حقوق الإنسان والنشطاء، الوصول إلى أرقام دقيقة فيما يتعلق بضحايا التعذيب. كما لا يمكن تعقب الشكاوى المرفوعة بشكل رسمي ضد المعذبين. أوضحت القضايا التي وثقتها المنظمة الأوروبية السعودية لحقوق الإنسان أن حماية المعذبين من المسائلة سياسة رسمية.
⁃ دُور التوقيف والسجون:
رصدت المنظمة الأوروبية السعودية لحقوق الإنسان انتهاكات بحق ضحايا التعذيب منذ لحظة الاعتقال. لا زال الإخفاء القسري والاعتقال التعسفي ممارسة منهجية يتعرض لها المعتقل في لحظاته الأولى. ويعد الإخفاء القسري والسجن الانفرادي مقدمة للتعذيب في معظم القضايا، حيث يتعرض المعتقلون للتعذيب خلال الساعات الأولى من الاعتقال.
أدى التعذيب الذي يمارس في دور التوقيف والسجون إلى وفاة عدد من المعتقلين من دون التحقيق في ذلك، من بينهم الشاب مكي العريض . كما رصدت المنظمة الأوروبية السعودية عددا من قضايا الوفيات في السجون نتيجة للتعذيب أو آثاره اللاحقة أو ظروف غامضة داخل السجون.
⁃ القضاء
تسمح الأحكام القانونية بقبول الاعترافات المنتزعة بالتعذيب، وهذا يظهر في مواد مختلفة من قانون الإجراءات الجنائية، بينها المادة 161 التي تنص على استخدام الاعترافات في المحاكمات الجنائية إذا “رأى القاضي أنها [الاعترافات] صحيحة”.
بناء على ذلك، أصدر القضاة في السعودية أحكاما قاسية بينها أحكام بالإعدام بناء على اعترافات منتزعة تحت التعذيب. أعدمت السعودية أفرادا تعرضوا للتعذيب خلال السنوات الماضية بينهم ٣٧ شخصا في أبريل ٢٠١٩ بشكل جماعي، ضمنهم أطفال مثل عبد الكريم الحواج ومجتبى السويكت. ومؤخرا في 15 يونيو 2021، أعدمت القاصر مصطفى آل درويش بناء على اعترافات انتزعت منه تحت التعذيب.
حاليا لا يزال العشرات يواجهون خطر الإعدام على الرغم من تأكيد تعرضهم للتعذيب، بينهم القاصر عبدالله الحويطي بعد تحويل قضيته إلى المحكمة العليا على الرغم من تأكيده تعرضه للتعذيب والإشارة إلى المسؤولين الحكوميين الذين تولوا عملية التعذيب. إضافة إلى ذلك لا زال الشيخ سلمان العودة الذي لاتزال النيابة العامة مصرة على قتله يعامل بطريقة قاسية ومهينة في السجن. في عام 2020 ، راجعت المنظمة الأوروبية السعودية لحقوق الإنسان 110 حالة لضحايا تعذيب في السعودية ، ووجدت أن 41 شخصًا على الأقل تقدموا بشكاوى أمام المحكمة بشأن التعذيب وغيره من ضروب المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. قال العديد إن المحققين هددوهم بإحضار أقاربهم (بمن فيهم زوجاتهم وأبنائهم وأمهاتهم) إلى السجن إذا رفضوا التوقيع على المحاضر التي كتبها المحققون مسبقا.
بدلاً من التحقيق في المزاعم وتجاهل الاعترافات التي تم الإدلاء بها أثناء التعذيب، حكم القضاة في العديد من هذه القضايا بأحكام قاسية من دون أي مراجعة لادعاءات التعذيب. كما رصدت المنظمة قضايا أشار فيها القضاة إلى المتهمين بأن عدم المصادقة على الاعترافات سوف تعيده إلى التحقيق وبالتالي التعرض لوجبات جديدة من التعذيب، وهو ما يدفع المتهمين بشكل قسري إلى المصادقة.
إضافة إلى ذلك، يسمح قانون مكافحة الإرهاب الذي تم تعديله في عام 2017، والذي يستخدم في الكثير من الحالات ضد النشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان، بإبقاء المتهمين بمعزل عن العالم الخارجي لفترات طويلة، وبالتالي حرمانهم من الضمانات القانونية ضد التعذيب. كما تستمر قوات أمن الدولة السعودية في الإخفاء القسري والاعتقال السري للأفراد، الذين يتعرضون بعد ذلك بانتظام للتعذيب وسوء المعاملة. كل من المادة 19 والمادة 20 من القانون تمنحان المحكمة الجزائية المتخصصة سلطة تمديد الحبس الانفرادي رهن المحاكمة إلى أجل غير مسمى.
بدلًا من محاسبة الجناة، قامت السعودية بتهديد ومحاكمة وارتكاب المزيد من الانتهاكات ضد الضحايا، ما يعد إرهابا إستباقيا لهم يخيفهم من من تقديم الشكاوى.
ففي العام 2011 اعتقلت السعودية المدافع عن حقوق الإنسان خالد العمير، بعد يوم من إعلانه عن نيته الاحتجاج على العدوان الإسرائيلي على غزة. حكمت المحكمة الجزائية المتخصصة بالرياض بالسجن ثماني سنوات بتهمة “التصرف ضد ولي الأمر”. بعد الإفراج عنه، ورد أنه اشتكى إلى الديوان الملكي بشأن التعذيب الذي تعرض له أثناء سجنه. في 5 يوليو 2018 حضر إلى المديرية العامة للتحقيق لمتابعة الشكوى التي لم يتلق حولها أي رد. في اليوم التالي تم القبض عليه ولفقت ضده تهم جديدة.
في فبراير 2021، أفرجت الحكومة السعودية عن المدافعة عن حقوق الإنسان لجين الهذلول بعد قرابة ثلاث سنوات من الاحتجاز. أكدت الهذلول، إلى جانب ناشطات أخريات في أول جلسة محاكمة لهن، تعرضهن للتعذيب بالصدمات الكهربائية والجلد والتحرش الجنسي. وبدلاً من استجواب المتهمين بالتعذيب، قامت الحكومة السعودية في أغسطس 2019 بابتزاز الهذلول، وعرضت إطلاق سراحها مقابل مقطع فيديو تنكر بموجبه تعرضها للتعذيب ، مما يمنعها بعد ذلك من تقديم شكوى. بعد ذلك، رفضت محكمة الاستئناف شكوى الهذلول، ولا زالت تمنعها من السفر ومن الحديث العلني حول ما تعرضت له ما يثير مخاوف من إعادة اعتقالها.
رئاسة أمن الدولة:
في يونيو 2017 صدر أمر ملكي نص على إنشاء جهاز “رئاسة أمن الدولة” وقال أنه يعنى “بكل ما يتعلق بأمن الدولة ، ويرتبط برئيس مجلس الوزراء” أي الملك مباشرة.
وفقا للأمر الملكي تولت رئاسة أمن الدولة مهام مكافحة الإرهاب والاستخبارات في وزارة الداخلية. تمنح المادتان 4 و 5 من القانون للنيابة العامة ورئاسة أمن الدولة، صلاحيات احتجاز الأفراد دون إشراف قضائي، ومنعهم من السفر، ومراقبة اتصالاتهم ومصادرة أصولهم. إضافة إلى ذلك باتت المديرية العامة للمباحث وهي المسؤولة عن السجون تحت سلطة رئاسة أمن الدولة. وتعد سجون المباحث مسؤولة عن عمليات الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب، وبالتالي تتحمل رئاسة أمن الدولة حاليا المسؤولية المباشرة عن هذه الممارسات التي تزايدت خلال السنوات الأخيرة.
مؤخرا بعد أيام من تأكيد المحكمة العليا في الرياض تحويل قضية الشاب مصطفى آل درويش إلى رئاسة أمن الدولة، تم تنفيذ حكم الإعدام الصادر بحقه على الرغم من كونه قاصر وعلى الرغم من انتهاك محاكمته للعديد من شروط العدالة. يبين ذلك تنفيذ رئاسة أمن الدولة لأحكام جائرة.
تؤكد المنظمة الأوروبية السعودية لحقوق الإنسان أن الانتهاكات التي تقوم بها أجهزة النظام في السعودية تتظافر لتجعل التعذيب ممارسة ممنهجة لعدة أهداف، فإلى جانب انتزاع الاعترافات، تستخدم الأجهزة المختلفة التعذيب وخاصة ضد معتقلي الرأي، لترهيب الأفراد ومنعهم من ممارسة حقوقهم.
في اليوم الدولي لمساندة ضحايا التعذيب، ترى المنظمة أن الإفلات من العقاب في السعودية ممارسة مشرعة في القوانين ومحمية من قبل أعلى المسؤولين في النظام، وهذا ما يغيّب أي أفق للحد من التعذيب.